فصل: باب وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى فَصُرْهُنَّ قَطِّعْهُنَّ

مساءً 6 :15
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*3*باب حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏)‏ هي تأنيث الأوسط والأوسط الأعدل من كل شيء، وليس المراد به التوسط بين الشيئين لأن فعلى معناها التفضيل، ولا ينبني للتفضيل إلا ما يقبل الزيادة والنقص، والوسط بمعنى الخيار، والعدل يقبلهما، بخلاف المتوسط فلا يقبلهما فلا يبني منه أفعل تفضيل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ح و حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَبَسُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ أَوْ أَجْوَافَهُمْ شَكَّ يَحْيَى نَارًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثني عبد الله بن محمد‏)‏ هو الجعفي ويزيد هو ابن هارون وهشام هو ابن حسان ومحمد هو ابن سيرين وعبيدة بفتح العين هو ابن عمرو، وعبد الرحمن في الطريق الثانية هو ابن بشر بن الحكم ويحيى بن سعيد هو القطان‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حبسونا عن صلاة الوسطى‏)‏ أي منعونا عن الصلاة الوسطى أي عن إيقاعها، زاد مسلم من طريق شتير بن شكل عن علي ‏"‏ شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ‏"‏ وزاد في آخره ‏"‏ ثم صلاها بين المغرب والعشاء ‏"‏ ولمسلم عن ابن مسعود نحو حديث علي، وللترمذي والنسائي من طريق زر بن حبيش عن على مثله، ولمسلم أيضا من طريق أبي حسان الأعرج عن عبيدة السلماني عن علي فذكر الحديث بلفظ ‏"‏ كما حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس ‏"‏ يعني العصر، وروى أحمد والترمذي من حديث سمرة رفعه قال ‏"‏ صلاة الوسطى صلاة العصر ‏"‏ وروى ابن جرير من حديث أبي هريرة رفعه ‏"‏ الصلاة الوسطى صلاة العصر ‏"‏ ومن طريق كهيل بن حرملة ‏"‏ سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى فقال‏.‏

اختلفنا فيها ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفينا أبو هاشم بن عتبة فقال‏:‏ أنا أعلم لكم، فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلينا فقال‏:‏ أخبرنا أنها صلاة العصر ‏"‏ ومن طريق عبد العزيز بن مروان أنه أرسل إلى رجل فقال‏:‏ أي شيء سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الوسطى‏؟‏ فقال أرسلني أبو بكر وعمر أسأله وأنا غلام صغير فقال‏:‏ هي العصر، ومن حديث أبي مالك الأشعري رفعه ‏"‏ الصلاة الوسطى صلاة العصر ‏"‏ وروى الترمذي وابن حبان من حديث ابن مسعود مثله، وروى ابن جرير من طريق هشام بن عروة عن أبيه قال‏:‏ كان في مصحف عائشة ‏"‏ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر ‏"‏ وروى ابن المنذر من طريق مقسم عن ابن عباس قال ‏"‏ شغل الأحزاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غربت الشمس فقال‏:‏ شغلونا عن الصلاة الوسطى ‏"‏ وأخرج أحمد من حديث أم سلمة وأبي أيوب وأبي سعيد وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عباس من قولهم إنها صلاة العصر، وقد اختلف السلف في المراد بالصلاة الوسطى، وجمع الدمياطي في ذلك جزءا مشهورا سماه ‏"‏ كشف الغطا عن الصلاة الوسطى‏"‏‏.‏

فبلغ تسعة عشر قولا‏:‏ أحدها الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب أو جميع الصلوات، فالأول قول أبي أمامة وأنس وجابر وأبي العالية وعبيد بن عمير وعطاء وعكرمة ومجاهد وغيرهم نقله ابن أبي حاتم عنهم وهو أحد قولي ابن عمر وابن عباس ونقله مالك والترمذي عنهما ونقله مالك بلاغا عن علي والمعروف عنه خلافه، وروى ابن جرير من طريق عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي قال ‏"‏ صليت خلف ابن عباس الصبح فقنت فيها ورفع يديه ثم قال‏:‏ هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين ‏"‏ وأخرجه أيضا من وجه آخر عنه وعن ابن عمرو من طريق أبي العالية ‏"‏ صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة في زمن عمر صلاة الغداة فقلت لهم‏:‏ ما الصلاة الوسطى‏؟‏ قال هي هذه الصلاة‏.‏

وهو قول مالك والشافعي فيما نص عليه في ‏"‏ الأم ‏"‏ واحتجوا له بأن فيها القنوت، وقد قال الله تعالى ‏(‏وقوموا لله قانتين‏)‏ وبأنها لا تقصر في السفر، وبأنها بين صلاتي جهر وصلاتي سر‏.‏

والثاني قول زيد بن ثابت أخرجه أبو داود من حديثه قال ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فنزلت‏:‏ حافظوا على الصلوات الآية ‏"‏ وجاء عن أبي سعيد وعائشة القول بأنها الظهر أخرجه ابن المنذر وغيره، وروى مالك في ‏"‏ الموطأ ‏"‏ عن زيد بن ثابت الجزم بأنها الظهر وبه قال أبو حنيفة في رواية، وروى الطيالسي من طريق زهرة بن معبد قال ‏"‏ كنا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة فسألوه عن الصلاة الوسطى فقال‏:‏ هي الظهر ‏"‏ ورواه أحمد من وجه آخر وزاد ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان والناس في قائلتهم وفي تجارتهم، فنزلت‏"‏‏.‏

والثالث قول علي بن أبي طالب فقد روى الترمذي والنسائي من طريق زر بن حبيش قال ‏"‏ قلنا لعبيدة سل عليا عن الصلاة الوسطى، فسأله فقال‏:‏ كنا نرى أنها الصبح، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب ‏"‏ شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ‏"‏ انتهى‏.‏

وهذه الرواية تدفع دعوى من زعم أن قوله صلاة العصر مدرج من تفسير بعض الرواة وهي نص في أن كونها العصر من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وأن شهبة من قال إنها الصبح قوية، لكن كونها العصر هو المعتمد، وبه قال ابن مسعود وأبو هريرة، وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة وقول أحمد والذي صار إليه معظم الشافعية لصحة الحديث فيه، قال الترمذي‏:‏ هو قول أكثر علماء الصحابة‏.‏

وقال الماوردي‏:‏ هو قول جمهور التابعين‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ هو قول أكثر أهل الأثر، وبه قال من المالكية ابن حبيب وابن العربي وابن عطية، ويؤيده أيضا ما روى مسلم عن البراء بن عازب ‏"‏ نزل حافظوا على الصلوات وصلاة العصر فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخت فنزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، فقال رجل‏:‏ فهي إذن صلاة العصر، فقال‏:‏ أخبرتك كيف نزلت‏"‏‏.‏

والرابع نقله ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس قال ‏"‏ صلاة الوسطى هي المغرب، وبه قال قبيصة بن ذؤيب أخرجه أبو جرير، حجه وحجتهم أنها معتدلة في عدد الركعات وأنها لا تقصر في الأسفار وأن العمل مضى على المبادرة إليها والتعجيل لها في أول ما تغرب الشمس وأن قبلها صلاتا سر وبعدها صلاتا جهر‏.‏

والخامس وهو آخر ما صححه ابن أبي حاتم أخرجه أيضا بإسناد حسن عن نافع قال ‏"‏ سئل ابن عمر فقال‏:‏ هي كلهن، فحافظوا عليهن ‏"‏ وبه قال معاذ بن جبل، واحتج له بأن قوله‏:‏ ‏(‏حافظوا على الصلوات‏)‏ يتناول الفرائض والنوافل، فعطف عليه الوسطى وأريد بها كل الفرائص تأكيدا لها، واختار هذا القول ابن عبد البر‏.‏

وأما بقية الأقوال فالسادس أنها الجمعة، ذكره ابن حبيب من المالكية واحتج بما اختصت به من الاجتماع والخطبة، وصححه القاضي حسين في صلاة الخوف من تعليقه، ورجحه أبو شامة‏.‏

السابع الظهر في الأيام والجمعة يوم الجمعة‏.‏

الثامن العشاء نقله ابن التين والقرطبي واحتج له بأنها بين صلاتين لا تقصران ولأنها تقع عند النوم فلذلك أمر بالمحافظة عليها واختاره الواحدي‏.‏

التاسع الصبح والعشاء للحديث الصحيح في أنهما أثقل الصلاة على المنافقين، وبه قال الأبهري من المالكية‏.‏

العاشر الصبح والعصر لقوة الأدلة في أن كلا منهما قيل إنه الوسطى، فظاهر القرآن الصبح ونص السنة العصر‏.‏

الحادي عشر صلاة الجماعة‏.‏

الثاني عشر الوتر وصنف فيه علم الدين السخاوي جزءا ورجحه القاضي تقي الدين الأخنائي واحتج له في جزء رأيته بخطه‏.‏

الثالث عشر صلاة الخوف‏.‏

الرابع عشر صلاة عيد الأضحى‏.‏

الخامس عشر صلاة عيد الفطر‏.‏

السادس عشر صلاة الضحى‏.‏

السابع عشر واحدة من الخمس غير معينة قاله الربيع بن خثيم وسعيد بن جبير وشريح القاضي وهو اختيار إمام الحرمين من الشافعية ذكره في النهاية قال كما أخفيت ليلة القدر‏.‏

الثامن عشر أنها الصبح أو العصر على الترديد وهو غير القول المتقدم الجازم بأن كلا منهما يقال له الصلاة الوسطى‏.‏

التاسع عشر التوقف فقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه‏.‏

العشرون صلاة الليل وجدته عندي وذهلت الآن عن معرفة قائله، وأقوى شبهة لمن زعم أنها غير العصر مع صحة الحديث حديث البراء الذي ذكرته عند مسلم فإنه يشعر بأنها أبهمت بعدما عينت كذا قاله القرطبي، قال وصار إلى أنها أبهمت جماعة من العلماء المتأخرين، قال‏:‏ وهو الصحيح لتعارض الأدلة وعسر الترجيح‏.‏

وفي دعوى أنها أبهمت ثم عينت من حديث البراء نظر، بل فيه أنها عينت ثم وصفت، ولهذا قال الرجل فهي إذن العصر ولم ينكر عليه البراء، نعم جواب البراء يشعر بالتوقف لما نظر فيه من الاحتمال، وهذا لا يدفع التصريح بها في حديث علي، ومن حجتهم أيضا ما روى مسلم وأحمد من طريق أبي يونس عن عائشة أنها أمرته أن يكتب لها مصحفا، فلما بلغت ‏(‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏)‏ قال فأملت على ‏"‏ وصلاة العصر ‏"‏ قالت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى مالك عن عمرو ابن رافع قال كنت أكتب مصحفا لحفصة فقالت‏:‏ إذا بلغت هذه الآية فآذني، فأملت على ‏"‏ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ‏"‏ وأخرجه ابن جرير من وجه آخر حسن عن عمرو ابن رافع، وروى ابن المنذر من طريق عبيد الله ابن رافع ‏"‏ أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفا ‏"‏ فذكر مثل حديث عمرو ابن رافع سواء، ومن طريق سالم ابن عبد الله بن عمر أن حفصة أمرت إنسانا أن يكتب لها مصحفا نحوه ومن طريق نافع أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا فذكر مثله وزاد ‏"‏ كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها ‏"‏ قال نافع فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو فتمسك قوم بأن العطف يقتضي المغايرة فتكون صلاة العصر غير الوسطى‏.‏

وأجيب بأن حديث علي ومن وافقه أصح إسنادا وأصرح وبأن حديث عائشة قد عورض برواية عروة أنه كان في مصحفها ‏"‏ وهي العصر ‏"‏ فيحتمل أن تكون الواو زائدة، ويؤيده ما رواه أبو عبيدة بإسناد صحيح عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها ‏"‏ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر ‏"‏ بغير واو أو هي عاطفة لكن عطف صفة لا عطف ذات، وبأن قوله والصلاة الوسطى والعصر لم يقرأ بها أحد، ولعل أصل ذلك ما في حديث البراء أنها نزلت أولا والعصر ثم نزلت ثانيا بدلها والصلاة الوسطى، فجمع الراوي بينهما، ومع وجود الاحتمال لا ينهض الاستدلال، فكيف يكون مقدما على النص الصريح بأنها صلاة العصر، قال شيخ شيوخنا الحافظ صلاح الدين العلائي‏:‏ حاصل أدلة من قال إنها غير العصر يرجع إلى ثلاثة أنواع‏:‏ أحدها تنصيص بعض الصحابة وهو معارض بمثله ممن قال منهم إنها العصر، ويترجح قول العصر بالنص الصريح المرفوع، وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على غيره فتبقى حجة المرفوع قائمة‏.‏

ثانيها معارضة المرفوع بورود التأكيد على فعل غيرها كالحث على المواظبة على الصبح والعشاء وقد تقدم في كتاب الصلاة، وهو معارض بما هو أقوى منه وهو الوعيد الشديد الوارد في ترك صلاة العصر، وقد تقدم أيضا‏.‏

ثالثها ما جاء عن عائشة وحفصة من قراءة ‏"‏ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ‏"‏ فإن العطف يقتضي المغايرة، وهذا يرد عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد وهو ممتنع، وكونه ينزل منزلة خبر الواحد مختلف فيه، سلمنا لكن لا يصلح معارضا للمنصوص صريحا، وأيضا فليس العطف صريحا في اقتضاء المغايرة لوروده في نسق الصفات كقوله تعالى ‏(‏الأول والآخر والظاهر والباطن‏)‏ انتهى ملخصا‏.‏

وقد تقدم شرح أحوال يوم الخندق في المغازي وما يتعلق بقضاء الفائتة في المواقيت من كتاب الصلاة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ملأ الله قبورهم وبيوتهم - أو أجوافهم - نارا شك يحيى‏)‏ هو القطان راوي الحديث، وأشعر هذا بأنه ساق المتن على لفظه، وأمل لفظ يزيد بن هارون فأخرجه أحمد عنه بلفظ ‏"‏ ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا ‏"‏ ولم يشك، وهو لفظ روح بن عبادة كما مضى في المغازي وعيسى بن يونس كما مضى في الجهاد، ولمسلم مثله عن أبي أسامة عن هشام، وكذا له في رواية أبي حسان الأعرج عن عبيدة بن عمرو، ومن طريق شتير ابن شكل عن على مثله، وله من رواية يحيى بن الجزار عن على ‏"‏ قبورهم وبيوتهم - أو قال - قبورهم وبطونهم ‏"‏ ومن حديث بن مسعود ‏"‏ ملأ الله أجوافهم - أو قبورهم - نارا، أو حشى الله أجوافهم وقبورهم نارا ‏"‏ ولا بن حبان من حديث حذيفة ‏"‏ ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا أو قلوبهم ‏"‏ وهذه الروايات التي وقع فيها الشك مرجوحة بالنسبة إلى التي لا شك فيها‏.‏

وفي هذا الحديث جواز الدعاء على المشركين بمثل ذلك‏.‏

قال ابن دقيق العيد‏:‏ تردد الراوي في قوله ‏"‏ ملأ الله ‏"‏ أو ‏"‏ حشى ‏"‏ يشرط بأن شرط الرواية بالمعنى أن يتفق المعنى في اللفظين، وملأ ليس مرادفا لحشى، فإن حشى يقتضي التراكم وكثرة أجزاء المحشو بخلاف ملأ، فلا يكون في ذلك متمسك لمن منع الرواية بالمعنى، وقد استشكل هذا الحديث بأنه تضمن دعاء صدر من النبي صلى الله عليه وسلم على من يستحقه وهو من مات منهم مشركا، ولم يقع أحد الشقين وهو البيوت أما القبور فوقع في حق من مات منهم مشركا لا محالة‏.‏

ويجاب بأن يحمل على سكانها وبه يتبين رجحان الرواية بلفظ قلوبهم أو أجوافهم‏.‏

*3*باب وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ أَيْ مُطِيعِينَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب وقوموا لله قانتين، أي مطيعين‏)‏ هو تفسير ابن مسعود أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد صحيح، ونقله أيضا عن ابن عباس وجماعة من التابعين‏.‏

وذكر من وجه آخر عن ابن عباس قال‏:‏ قانتين أي مصلين‏.‏

وعن مجاهد قال‏:‏ من القنوت الركوع والخشوع وطول القيام وغض البصر وخفض الجناح والرهبة لله‏.‏

وأصح ما دل عليه حديث الباب - وهو حديث زيد بن أرقم - في أن المراد بالقنوت في الآية السكوت، وقد تقدم شرحه في أبواب‏.‏

العمل في الصلاة من أواخر كتاب الصلاة، والمراد به السكوت عن كلام الناس لا مطلق الصمت، لأن الصلاة لا صمت فيها بل جميعها قرآن وذكر، والله أعلم‏.‏

*3*باب قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا

فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ كُرْسِيُّهُ عِلْمُهُ يُقَالُ بَسْطَةً زِيَادَةً وَفَضْلًا أَفْرِغْ أَنْزِلْ وَلَا يَئُودُهُ لَا يُثْقِلُهُ آدَنِي أَثْقَلَنِي وَالْآدُ وَالْأَيْدُ الْقُوَّةُ السِّنَةُ نُعَاسٌ يَتَسَنَّهْ يَتَغَيَّرْ فَبُهِتَ ذَهَبَتْ حُجَّتُهُ خَاوِيَةٌ لَا أَنِيسَ فِيهَا عُرُوشُهَا أَبْنِيَتُهَا نُنْشِرُهَا نُخْرِجُهَا إِعْصَارٌ رِيحٌ عَاصِفٌ تَهُبُّ مِنْ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ كَعَمُودٍ فِيهِ نَارٌ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ صَلْدًا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَابِلٌ مَطَرٌ شَدِيدٌ الطَّلُّ النَّدَى وَهَذَا مَثَلُ عَمَلِ الْمُؤْمِنِ يَتَسَنَّهْ يَتَغَيَّرْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قوله تعالى ‏(‏فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم‏)‏ الآية‏)‏ ذكر فيه حديث بن عمر في صلاة الخوف، وقد تقدم البحث فيه في أبواب صلاة الخوف مبسوطا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن جبير‏:‏ كرسيه علمه‏)‏ وصله سفيان الثوري في تفسيره في رواية أبي حذيفة عنه بإسناد صحيح، وأخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم من وجه آخر عن سعيد بن جبير فزاد فيه ‏"‏ عن ابن عباس ‏"‏ وأخرجه العقيلي من وجه آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو عند الطبراني في ‏"‏ كتاب السنة ‏"‏ من هذا الوجه مرفوعا، وكذا رويناه في ‏"‏ فوائد أبي الحسن علي بن عمر الحربي ‏"‏ مرفوعا والموقوف أشبه‏.‏

وقال العقيلي‏:‏ إن رفعه خطأ، ثم هذا التفسير غريب، وقد روى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أن الكرسي موضوع القدمين‏.‏

وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن أبي موسى مثله، وأخرجا عن السدي أن الكرسي بين يدي العرش، وليس ذلك مغايرا لما قبله، والله أعلم‏.‏

قوله يقال ‏(‏بسطة زيادة وفضلا‏)‏ هكذا ثبت لغير أبي ذر، وهو تفسير أبي عبيدة قال في قوله‏:‏ ‏(‏بسطة في العلم والجسم‏)‏ أي زيادة وفضلا وكثرة، وجاء عن ابن عباس نحوه، وذكره ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس قال في قوله‏:‏ ‏(‏وزادكم في الخلق بسطة‏)‏ يقول‏:‏ فضيلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏أفرغ‏:‏ أنزل‏)‏ ثبت هذا أيضا لغير أبي ذر، وهو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى ‏(‏ربنا أفرغ علينا صبرا‏)‏ أي أنزع علينا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يئوده‏:‏ لا يثقله‏)‏ هو تفسير ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وذكر مثله عن جماعة من التابعين، ولسقوط ما قبله من رواية أبي ذر صار كأنه من كلام سعيد ابن جبير لعطفه على تفسير الكرسي، ولم أره منقولا عنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏آدني‏:‏ أثقلني، والآد والأيد القوة‏)‏ هو كلام أبي عبيدة، قال في قوله تعالى‏:‏ ولا يئوده أي لا يثقله، تقول آدنى هذا الأمر أثقلني، وتقول ما آدك فهو لي آيد أي ما أثقلك فهو لي مثقل‏.‏

وقال في قوله تعالى ‏(‏واذكر عبدنا داود ذا الأيد‏)‏ أي ذا القوة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏السنة النعاس‏)‏ أخرجه ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لم يتسنه لم يتغير‏)‏ أخرجه ابن أبي حاتم من وجهين عن ابن عباس، وعن السدي مثله قال‏:‏ لم يحمض التين والعنب ولم يختمر العصير بل هما حلوان كما هما، وعي هذا فالهاء فيه أصلية، وقيل هي هاء السكت، وقيل أصله يتسنن مأخوذ من الحمأ المسنون أي المستن، وفي قراءة يعقوب ‏"‏ لم يتسن ‏"‏ بتشديد النون بلا هاء أي لم تمضي عليه السنون الماضية كأنه ابن ليلة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فبهت‏:‏ ذهبت حجته‏)‏ هو كلام أبي عبيدة قاله في قوله ‏"‏ فبهت الذي كفر ‏"‏ قال‏:‏ انقطع وذهبت حجته‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏خاوية لا أنيس فيها‏)‏ ذكره ابن أبي حاتم بنحوه من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله ‏"‏ وهي خاوية ‏"‏ قال‏:‏ ليس فيها أحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عروشها‏:‏ أبنيتها‏)‏ ثبت هذا والذي بعده لغير أبي ذر، وقد ذكره ابن أبي حاتم من طريق الضحاك والسدي بمعناه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ننشرها‏:‏ نخرجها‏)‏ أخرجه ابن أبي حاتم من طريق السدي بمعناه في قوله ‏"‏ كيف ننشرها ‏"‏ يقول نخرجها، قال‏:‏ فبعث الله ريحا فحملت عظامه من كل مكان ذهب به الطير والسباع فاجتمعت، فركب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار عظما كله لا لحم له ولا دم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ أخرج ابن أبي حاتم من حديث علي أن هذه القصة وقعت لعزيز، وهو قول عكرمة وقتادة والسدي والضحاك وغيرهم، وذكر بعضهم قصة في ذلك، وأن القرية بيت القدس، وأن ذلك لما خربه بختنصر‏.‏

وقال وهب بن منبه ومن تبعه‏:‏ هي أرمياء، وساق ابن إسحاق قصة في المبتدأ‏.‏

‏(‏تكملة‏)‏ ‏:‏ استدل بهذه الآية بعض أئمة الأصول على مشروعية القياس بأنها تضمنت قياس إحياء هذه القرية وأهلها وعمارتها لما فيها من الرزق بعد خرابها على إحياء هذا المار وإحياء حماره بعد موتهما بما كان مع المار من الرزق‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إعصار‏:‏ ريح عاصف تهب من الأرض إلى السماء كعمود نار‏)‏ ثبت هذا لأبي ذر عن الحموي وحده، وهو كلام أبي عبيدة، قال في قوله‏:‏ ‏(‏إعصار فيه نار فاحترقت‏)‏ قال‏:‏ الإعصار ريح عاصف إلخ، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ الإعصار ريح فيها سموم شديدة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس صلدا‏:‏ ليس عليه شيء‏)‏ سقط من هنا إلى آخر الباب من رواية أبي ذر، وتفسير قوله‏:‏ ‏(‏صلدا‏)‏ وصله ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وروى ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عباس قال‏:‏ فتركه يابسا لا ينبت شيئا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏قال عكرمة وابل‏:‏ مطر شديد، الطل الندى، وهذا مثل عمل المؤمن‏)‏ وصله عبد بن حميد عن روح بن عبادة عن عثمان بن غياث سمعت عكرمة بهذا، وسيأتي شرح حديث ابن عباس مع عمر في ذلك قريبا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يتسنه يتغير‏)‏ تقدم تفسيره عن ابن عباس، وأما عن عكرمة فذكره ابن أبي حاتم من روايته‏.‏

*3*باب وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا‏)‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَا حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا إِلَى قَوْلِهِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ قَدْ نَسَخَتْهَا الْأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا قَالَ تَدَعُهَا يَا ابْنَ أَخِي لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ قَالَ حُمَيْدٌ أَوْ نَحْوَ هَذَا

الشرح‏:‏

حديث ابن الزبير مع عثمان، وقد تقدم قبل بابين، وسقطت الترجمة لغير أبي ذر فصار من الباب الذي قبله عندهم‏.‏

*3*باب وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى فَصُرْهُنَّ قَطِّعْهُنَّ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى، فصرهن‏:‏ قطعهن‏)‏ ثبت هذا لأبي ذر وحده، وقد أخرجه ابن أبي حاتم من وجهين عن ابن عباس، ومن طريق جماعة من التابعين، ومن وجه آخر عن ابن عباس قال‏:‏ صرهن أي أو ثقهن ثم اذبحهن‏.‏

وقد اختلف نقلة القراءات في ضبط هذه اللفظة عن ابن عباس فقيل‏:‏ بكسر أوله كقراءة حمزة، وقيل بضمه كقراءة الجمهور، وقيل بتشديد الراء مع ضم أوله وكسره من صره يصره إذا جمعه ونقل أبو البقاء تثليث الراء في هذه القراءة وهي شاذة، قال عياض تفسير صرهن بقطعهن غريب والمعروف أن معناها أملهن، يقال صاره يصيره ويصوره إذا أماله، قال ابن التين‏:‏ صرهن بضم الصاد معناها ضمهن، وبكسرها قطعهن‏.‏

قلت‏:‏ ونقل أبو علي الفارسي أنهما بمعنى واحد، وعن الفراء الضم مشترك والكسر القطع فقط، وعنه أيضا هي مقلوبة من قوله صراه عن كذا أي قطعه، يقال صرت الشيء فانصار أي انقطع، وهذا يدفع قول من قال‏:‏ يتعين حمل تفسير ابن عباس بالقطع على قراءة كسر الصاد، وذكر صاحب ‏"‏ المغرب ‏"‏ أن هذه اللفظة بالسريانية وقيل بالنبطية، لكن المنقول أولا يدل على أنها بالعربية، والعلم عند الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة ‏"‏ نحن أحق بالشك من إبراهيم ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفى في أحاديث الأنبياء‏.‏

*3*باب قَوْلِهِ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ إِلَى قَوْلِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قوله‏:‏ أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب - إلى قوله - لعلكم تتفكرون‏)‏ كذا لجميعهم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ وَسَمِعْتُ أَخَاهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ قَالُوا اللَّهُ أَعْلَمُ فَغَضِبَ عُمَرُ فَقَالَ قُولُوا نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ عُمَرُ يَا ابْنَ أَخِي قُلْ وَلَا تَحْقِرْ نَفْسَكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ قَالَ عُمَرُ أَيُّ عَمَلٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَمَلٍ قَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا إبراهيم‏)‏ هو ابن موسى، وهشام هو ابن يوسف‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وسمعت أخاه‏)‏ هو مقول ابن جريج، وأبو بكر ابن أبي مليكة لا يعرف اسمه، وعبيد بن عمير ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وسماعه من عمر صحيح، وقد بين الإسماعيلي والطبري من طريق ابن المبارك عن ابن جريج أن سياق الحديث له فإنه ساقه على لفظه ثم عقبه برواية ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فيم‏)‏ بكسر الفاء وسكون التحتانية أي في أي شيء وترون بضم أوله‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى أغرق أعماله‏)‏ بالغين المعجمة أي أعماله الصالحة‏.‏

وأخرج ابن المنذر هذا الحديث من وجه آخر عن ابن أبي مليكة وعنده بعد قوله أي عمل قال ابن عباس شيء ألقى في روعي، فقال ‏"‏ صدقت يا ابن أخي ‏"‏ ولابن جرير من وجه آخر عن ابن أبي مليكة ‏"‏ عنى بها العمل، ابن آدم أفقر ما يكون إلى جنته إذا كبر سنه وكثر عياله، وابن آدم أفقر ما يكون إلى عمله يوم يبعث، صدقت يا ابن أخي‏.‏

‏"‏ ولابن جرير من وجه آخر عن ابن أبي مليكة عن عمر قال ‏"‏ هذا مثل ضرب للإنسان يعمل صالحا حتى إذا كان عنده آخر عمره أحوج ما يكون إلى العمل الصالح عمل عمل السوء ‏"‏ ومن طريق عطاء عن ابن عباس ‏"‏ معناه أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل الخير، حتى إذا كان حين فني عمره ختم ذلك يعمل أهل الشقاء فأفسد ذلك، وفي الحديث قوة فهم ابن عباس، وقرب منزلته من عمر، وتقديمه له من صغره، وتحريض العالم تلميذه على القول بحضرة من هو أسن منه إذا عرف فيه الأهلية لما فيه من تنشيطه وبسط نفسه وترغيبه في العلم‏.‏

*3*باب لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا يُقَالُ أَلْحَفَ عَلَيَّ وَأَلَحَّ عَلَيَّ وَأَحْفَانِي بِالْمَسْأَلَةِ فَيُحْفِكُمْ يُجْهِدْكُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب لا يسألون الناس إلحافا، يقال ألحف علي، وألح، وأحفاني بالمسألة‏)‏ زاد في نسخة الصغاني ‏"‏ فيحفكم يجهدكم ‏"‏ هو تفسير أبي عبيدة قال في قوله تعالى ‏(‏ولا يسألكم أموالكم إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا‏)‏ يقال أحفاني بالمسألة وألحف علي وألح علي بمعنى واحد، واشتقاق ألحف من اللحاف لأنه يشتمل على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف في التغطية‏.‏

وقال أبو عبيدة في قوله‏:‏ ‏(‏لا يسألون الناس إلحافا‏)‏ قال‏:‏ إلحاحا انتهى‏.‏

وانتصب ‏(‏إلحافا‏)‏ على أنه مصدر في موضع الحال أي لا يسألون في حال الإلحاف، أو مفعول لأجله أي لا يسألون لأجل الإلحاف، وهل المراد نفي المسألة فلا يسألون أصلا، أو نفي السؤال بالإلحاف خاصة فلا ينتفي السؤال بغير إلحاف فيه احتمال، والثاني أكثر في الاستعمال‏.‏

ويحتمل أن يكون المراد لو سألوا لم يسألوا إلحافا فلا يستلزم الوقوع‏.‏

ثم ذكر المصنف حديث أبي هريرة ‏"‏ ليس المسكين الذي ترده التمرة ‏"‏ الحديث، وقد تقدم شرحه في كتاب الزكاة، وقوله ‏"‏اقرءوا إن شئتم، يعني قوله ‏(‏لا يسألون الناس إلحافا‏)‏ ووقع عند الإسماعيلي بيان قائل ‏"‏ يعني ‏"‏ فإنه أخرجه عن الحسن بن سفيان عن حميد بن زنجويه عن سعيد بن أبي مريم بسنده وقال في آخره ‏"‏ قلت لسعيد بن أبي مريم‏:‏ ما تقرأ‏؟‏ قال ‏(‏للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله‏)‏ الآية ‏"‏ فيستفاد منه أن قائل يعني هو سعيد بن أبي مريم شيخ البخاري فيه‏.‏

وقد أخرج مسلم والإسماعيلي هذا الحديث من طريق إسماعيل بن جعفر عن شريك بن أبي نمر بلفظ‏:‏ اقرءوا إن شئتم ‏(‏لا يسألون الناس إلحافا‏)‏ فدل على صحة ما فسرها به سعيد بن أبي مريم‏.‏

وكذا أخرجه الطبري من طريق صالح بن سويد عن أبي هريرة، لكنه لم يرفعه‏.‏

وروى أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان من طريق عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه مرفوعا ‏"‏ من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف ‏"‏ وفي رواية ابن خزيمة ‏"‏ فهو ملحف ‏"‏ والأوقية أربعون درهما‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ أَبِي نَمِرٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيَّ قَالَا سَمِعْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَلَا اللُّقْمَةُ وَلَا اللُّقْمَتَانِ إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ يَعْنِي قَوْلَهُ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا

الشرح‏:‏

لأحمد من حديث عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد رفعه ‏"‏ من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا ‏"‏ ولأحمد والنسائي من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده رفعه ‏"‏ من سأل وله أربعون درهما فهو ملحف‏"‏‏.‏

*3*باب وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا الْمَسُّ الْجُنُونُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب وأحل الله البيع وحرم الربا‏)‏ إلى آخر الآية‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏المس الجنون‏)‏ هو تفسير الفراء، قال في قوله تعالى ‏(‏لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس‏)‏ أي لا يقوم في الآخرة، قال‏:‏ والمس الجنون، والعرب تقول ممسوس أي مجنون انتهى‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ المس اللمم من الجن‏.‏

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال ‏"‏ آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا ‏"‏ ومن طريق ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه ‏"‏ أنه كان يقرأ‏:‏ إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة ‏"‏ وقوله تعالى ‏(‏وأحل الله البيع وحرم الربا‏)‏ يحتمل أن يكون من تمام اعتراض الكفار حيث قالوا ‏(‏إنما البيع مثل الربا‏)‏ أي فلم أحل هذا وحرم هذا‏؟‏ ويحتمل أن يكون ردا عليهم ويكون اعتراضهم بحكم العقل والرد عليهم بحكم الشرع الذي لا معقب لحكمه، وعلى الثاني أكثر المفسرين، واستبعد بعض الحذاق الأول، وليس ببعيد إلا من جهة أن جوابهم بقوله‏:‏ ‏(‏فمن جاءه موعظة‏)‏ إلى آخره يحتاج إلى تقدير، والأصل عدمه‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏فقرأها‏)‏ أي الآيات‏.‏

وفي رواية شعبة التي بعد هذه ‏"‏ في المسجد ‏"‏ وقد مضى ما يتعلق به في المساجد من كتاب الصلاة، واقتضى صنيع المصنف في هذه التراجم أن المراد بالآيات آيات الربا كلها إلى آية الدين‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ثم حرم التجارة في الخمر‏)‏ تقدم توجيهه في البيوع، وأن تحريم التجارة في الربا وقع بعد تحريم الخمر بمدة فيحصل به جواب من استشكل الحديث بأن آيات الربا من آخر ما نزل من القرآن، وتحريم الخمر تقدم قبل ذلك بمدة‏.‏

*3*باب يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا يُذْهِبُهُ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب يمحق الله الربا‏:‏ يذهبه‏)‏ هو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى ‏(‏يمحق الله الربا‏)‏ أي يذهبه‏.‏

وأخرج أحمد وابن ماجة وصححه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه ‏"‏ أن الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قلة‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ سَمِعْتُ أَبَا الضُّحَى يُحَدِّثُ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لَمَّا أُنْزِلَتْ الْآيَاتُ الْأَوَاخِرُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَاهُنَّ فِي الْمَسْجِدِ فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ

الشرح‏:‏

حديث عائشة المذكور قبله من وجه آخر عن الأعمش، ومراده الإشارة إلى أن هذه الآية من جملة الآيات التي ذكرتها عائشة‏.‏

*3*باب فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَاعْلَمُوا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب فأذنوا بحرب من الله ورسوله‏:‏ فاعلموا‏)‏ هو تفسير ‏(‏فأذنوا‏)‏ على القراءة المشهورة بإسكان الهمزة وفتح الذال، قال أبو عبيدة‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏فأذنوا‏)‏ أيقنوا، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم ‏"‏ فآذنوا ‏"‏ بالمد وكسر الذال أي آذنوا غيركم وأعلموهم، والأول أوضح في مراد السياق‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا أُنْزِلَتْ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَرَأَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَسْجِدِ وَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ

الشرح‏:‏

حديث عائشة عن شيخ له آخر‏.‏

*3*باب وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة الآية‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق غيره بقية الآية، وهي خبر بمعنى الأمر، أي إن كان الذي عليه دين الربا معسرا فأنظروه إلى ميسرته‏.‏

الحديث‏:‏

وَ قَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ وَالْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمَّا أُنْزِلَتْ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهُنَّ عَلَيْنَا ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال محمد بن يوسف‏)‏ كذا لأبي ذر، ولغيره ‏"‏ وقال لنا محمد بن يوسف ‏"‏ وهو الفريابي، وسفيان هو الثوري، وقد رويناه موصولا في تفسير الفريابي بهذا الإسناد‏.‏

*3*باب وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله‏)‏ قرأ الجمهور بضم التاء من ترجعون مبنيا للمجهول، وقرأ أبو عمرو وحده بفتحها مبنيا للفاعل‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةُ الرِّبَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سفيان‏)‏ هو الثوري، وعاصم هو ابن سليمان الأحول‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن عباس‏)‏ كذا قال عاصم عن الشعبي، وخالفه داود بن أبي هند عن الشعبي فقال ‏"‏ عن عمر ‏"‏ أخرجه الطبري بلفظ ‏"‏ كان من آخر ما نزل من القرآن آيات الربا ‏"‏ وهو منقطع فإن الشعبي لم يلق عمر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا‏)‏ كذا ترجم المصنف بقوله‏:‏ ‏(‏واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله‏)‏ وأخرج هذا الحديث بهذا اللفظ، ولعله أراد أن يجمع بين قولي ابن عباس فإنه جاء عنه ذلك من هذا الوجه، وجاء عنه من وجه آخر‏:‏ آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله‏)‏ وأخرجه الطبري من طرق عنه، وكذا أخرجه من طرق جماعة من التابعين وزاد عن ابن جريج قال ‏"‏ يقولون إنه مكث بعدها تسع ليال ‏"‏ ونحوه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وروي عن غيره أقل من ذلك وأكثر فقيل إحدى وعشرين، وقيل سبعا، وطريق الجمع بين هذين القولين أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا إذ هي معطوفة عليهن، وأما ما سيأتي في آخر سورة النساء من حديث البراء ‏"‏ آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ‏"‏ فيجمع بينه وبين قول ابن عباس بأن الآيتين نزلتا جميعا، فيصدق أن كلا منهما آخر بالنسبة لما عداهما، ويحتمل أن تكون الآخرية في آية النساء مقيدة بما يتعلق بالمواريث مثلا، بخلاف آية البقرة، ويحتمل عكسه، والأول أرجح لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول، وحكى ابن عبد السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزول الآية المذكورة إحدى وعشرين يوما، وقيل سبعا، وأما ما ورد في ‏(‏إذا جاء نصر الله والفتح‏)‏ أنها آخر سورة نزلت فسأذكر ما يتعلق به في تفسيرها إن شاء الله تعالى، والله أعلم‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ المراد بالآخرية في الربا تأخر نزول الآيات المتعلقة به من سورة البقرة، وأما حكم تحريم الربا فنزوله سابق لذلك بمدة طويلة على ما يدل عليه قوله تعالى في آل عمران في أثناء قصة أحد ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة‏)‏ الآية‏.‏

*3*باب وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب قوله تعالى ‏(‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه‏)‏ الآية‏)‏ كذا لأبي ذر، وساق غيره الآية إلى ‏(‏قدير‏)‏ ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ حَدَّثَنَا مِسْكِينٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهْوَ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهَا قَدْ نُسِخَتْ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ الْآيَةَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا محمد‏)‏ كذا للأكثر، وبه صرح الإسماعيلي وأبو نعيم وغيرهما، ووقع لأبي علي بن السكن عن الفربري عن البخاري ‏"‏ حدثنا النفيلي ‏"‏ فأسقط ذكر محمد المهمل والصواب إثباته، ولعل ابن السكن ظن أن محمدا هو البخاري فحذفه، وليس كذلك لما ذكرته، وذكر أبو علي الجياني أنه وقع محذوفا في رواية أبي محمد الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني وأشار إلى أن الصواب إثباته انتهى‏.‏

وكلام أبي نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ يقتضي أنه في روايته عن الجرجاني ثابت وقد ثبت في رواية النسفي عن البخاري أيضا، واختلف فيه فقال الكلاباذي‏:‏ هو ابن يحيى الذهلي فيما أراه، قال وقال لي الحاكم‏:‏ هو محمد بن إبراهيم البوشنجي، قال وهذا الحديث مما أملاه البوشنجي بنيسابور انتهى‏.‏

وذكر الحاكم هذا الكلام في تاريخه عن شيخه أبي عبد الله بن الأخرم، وكلام أبي نعيم يقتضي أنه محمد بن إدريس أبو حاتم الرازي فإنه أخرجه من طريقه، ثم قال أخرجه البخاري عن محمد عن النفيلي، والنفيلي بنون وفاء مصغر اسمع عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل يكني أبا جعفر، وليس له في البخاري ولا لشيخه مسكين بن بكير الحراني إلا هذا الحديث الواحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حدثنا شعبة‏)‏ قال أبو علي الجياني‏:‏ وقع في رواية أبي محمد الأصيلي عن أبي أحمد ‏"‏ حدثنا مسكين وشعبة ‏"‏ وكتب بين الأسطر‏:‏ أراه حدثنا شعبة، قال أبو علي‏:‏ وهذا هو الصواب لا شك فيه، ومسكين هذا إنما يروي عن شعبة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن مروان الأصفر‏)‏ تقدم ذكره في الحج وأنه ليس له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد وآخر في الحج‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن عمر‏)‏ لم يتضح لي من هو الجازم بأنه ابن عمر، فإن الرواية الآتية بعد هذه وقعت بلفظ ‏"‏ أحسبه ابن عمر ‏"‏ وعندي في ثبوت كونه ابن عمر توقف لأنه ثبت أن ابن عمر لم يكن اطلع على كون هذه الآية منسوخة، فروى أحمد من طريق مجاهد قال‏:‏ دخلت على ابن عباس فقلت‏:‏ كنت عند ابن عمر فقرأ ‏(‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه‏)‏ فبكى، فقال ابن عباس‏:‏ إن هذه الآية لما أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غما شديدا وقالوا‏:‏ يا رسول الله هلكنا، فإن قلوبنا ليست بأيدينا‏.‏

فقال‏:‏ قولوا سمعنا وأطعنا، فقالوا، فنسختها هذه الآية ‏(‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏)‏ وأصله عند مسلم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس دون قصة ابن عمر ‏"‏ وأخرج الطبري بإسناد صحيح عن الزهري أنه سمع سعيد بن مرجانة يقول‏:‏ كنت عند ابن عمر فتلا هذه الآية ‏(‏وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه‏)‏ فقال‏:‏ والله لئن وأخذنا الله بهذا لنهلكن، ثم بكى حتى سمع نشيجه، فقمت حتى أتيت ابن عباس فذكرت له ما قال ابن عمر وما فعل حين تلاها، فقال‏:‏ يغفر الله لأبي عبد الرحمن، لعمري لقد وجد المسلمون حين نزلت مثل ما وجد، فأنزل الله ‏(‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏)‏ وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال ‏"‏ لما نزلت ‏(‏لله ما في السموات وما في الأرض‏)‏ الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فذكر القصة مطولا وفيها ‏"‏ فلما فعلوا نسخها الله فأنزل الله ‏(‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏)‏ إلى آخر السورة، ولم يذكر قصة ابن عمر‏.‏

ويمكن أن ابن عمر كان أولا لا يعرف القصة ثم لما تحقق ذلك جزم به فيكون مرسل صحابي، والله أعلم‏.‏

*3*باب آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِصْرًا عَهْدًا وَيُقَالُ غُفْرَانَكَ مَغْفِرَتَكَ فَاغْفِرْ لَنَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه‏)‏ أي إلى آخر السورة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال ابن عباس‏:‏ إصرا عهدا‏)‏ وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ‏(‏ولا تحمل علينا إصرا‏)‏ أي عهدا، وأصل الإصر الشيء الثقيل، ويطلق على الشديد، وتفسيره بالعهد تفسير باللازم لأن الوفاء بالعهد شديد‏.‏

وروى الطبري من طريق ابن جريج في قوله‏:‏ ‏(‏إصرا‏)‏ قال‏:‏ عهدا لا نطيق القيام به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ويقال غفرانك مغفرتك فاغفر لنا‏)‏ هو تفسير أبي عبيدة قال في قوله غفرانك أي مغفرتك أي اغفر لنا‏.‏

وقال الفراء‏:‏ غفرانك مصدر وقع في موضع أمر فنصب‏.‏

وقال سيبوبه التقدير اغفر غفرانك، وقيل يحتمل أن يقدر جملة خبرية أي نستغفرك غفرانك والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا رَوْحٌ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ مَرْوَانَ الْأَصْفَرِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَحْسِبُهُ ابْنَ عُمَرَ إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ قَالَ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏نسختها الآية التي بعدها‏)‏ قد عرف بيانه من حديثي ابن عباس وأبي هريرة والمراد بقوله نسختها أي أزالت ما تضمنته من الشدة وبينت أنه وإن وقعت المحاسبة به لكنها لا تقع المؤاخذة به أشار إلى ذلك الطبري فرارا من إثبات دخول النسخ في الأخبار‏.‏

وأجيب بأنه وإن كان خبرا لكنه يتضمن حكما ومهما كان من الأخبار يتضمن الأحكام أمكن دخول النسخ فيه كسائر الأحكام وإنما الذي لا يدخله النسخ من الأخبار ما كان خبرا محضا لا يتضمن حكما كالإخبار عما مضى من أحاديث الأمم ونحو ذلك ويحتمل أن يكون المراد بالنسخ في الحديث التخصيص فإن المتقدمين يطلقون لفظ النسخ عليه كثيرا، والمراد بالمحاسبة بما يخفى الإنسان ما يصمم عليه ويشرع فيه دون ما يخطر له ولا يستمر عليه، والله أعلم‏.‏

*3*سورة آلِ عِمْرَانَ

تُقَاةٌ وَتَقِيَّةٌ وَاحِدَةٌ صِرٌّ بَرْدٌ شَفَا حُفْرَةٍ مِثْلُ شَفَا الرَّكِيَّةِ وَهْوَ حَرْفُهَا تُبَوِّئُ تَتَّخِذُ مُعَسْكَرًا الْمُسَوَّمُ الَّذِي لَهُ سِيمَاءٌ بِعَلَامَةٍ أَوْ بِصُوفَةٍ أَوْ بِمَا كَانَ رِبِّيُّونَ الْجَمِيعُ وَالْوَاحِدُ رِبِّيٌّ تَحُسُّونَهُمْ تَسْتَأْصِلُونَهُمْ قَتْلًا غُزًّا وَاحِدُهَا غَازٍ سَنَكْتُبُ سَنَحْفَظُ نُزُلًا ثَوَابًا وَيَجُوزُ وَمُنْزَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَقَوْلِكَ أَنْزَلْتُهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْخَيْلُ الْمُسَوَّمَةُ الْمُطَهَّمَةُ الْحِسَانُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى الرَّاعِيَةُ الْمُسَوَّمَةُ وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَحَصُورًا لَا يَأْتِي النِّسَاءَ وَقَالَ عِكْرِمَةُ مِنْ فَوْرِهِمْ مِنْ غَضَبِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَالَ مُجَاهِدٌ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ مِنْ النُّطْفَةِ تَخْرُجُ مَيِّتَةً وَيُخْرِجُ مِنْهَا الْحَيَّ الْإِبْكَارُ أَوَّلُ الْفَجْرِ وَالْعَشِيُّ مَيْلُ الشَّمْسِ أُرَاهُ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏سورة آل عمران - بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏ كذا لأبي ذر ولم أر البسملة لغيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏صر‏:‏ برد‏)‏ هو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله تعالى ‏(‏كمثل ريح فيها صر‏)‏ ‏:‏ الصر شدة البرد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏شفا حفرة مثل شفا الركية‏)‏ بفتح الراء كسر الكاف وتشديد التحتانية ‏(‏وهو حرفها‏)‏ كذا للأكثر بفتح المهملة وسكون الراء وللنسفي بضم الجيم والراء والأول الصوب، والجرف الذي أضيف إليه شفا في الآية الأخرى غير شفا هنا، وقد قال أبو عبيدة في قوله تعالى ‏(‏شفا حفرة‏)‏ شفا جرف، وهو يقتضي التسوية بينهما في الإضافة وإلا فمدلول جرف غير مدلول حفرة، فإن لفظ شفا يضاف إلى أعلى الشيء ومنه قوله‏:‏ ‏(‏شفا جرف‏)‏ وإلى أسفل الشيء منه ‏(‏شفا حفرة‏)‏ ويطلق شفا أيضا على القليل تقول ما بقي منه شيء غير شفا أي غير قليل، ويستعمل في القرب ومنه أشفى على كذا أي قرب منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تبوئ‏:‏ تتخذ معسكرا‏)‏ هو تفسير أبي عبيدة، قال في قوله‏:‏ ‏(‏وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال‏)‏ أي تتخذ لهم مصاف ومعسكرا‏.‏

وقال غيره‏:‏ تبوئ تنزل، بوأه أنزله، وأصله من المباءة وهي المرجع‏.‏

والمقاعد جمع مقعد وهو مكان القعود، وقد تقدم شيء من ذلك في غزوة أحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ربيون‏:‏ الجموع، واحدها ربي‏)‏ هو تفسير أبي عبيدة قال في قوله‏:‏ ‏(‏وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير‏)‏ قال‏:‏ الربيون الجماعة الكثيرة، واحدها ربي، وهو بكسر الراء في الواحد، والجمع قراءة الجمهور‏.‏

وعن على وجماعة بضم الراء وهو من تغيير النسب في القراءتين إن كانت النسب إلى رب، وعليها قراءة ابن عباس ربيون بفتح الراء وقيل بل هو منسوب إلى الربة أي الجماعة وهو بضم الراء وبكسرها، فإن كان كذلك فلا تغيير والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تحسونهم‏:‏ تستأصلونهم قتلا‏)‏ وقع هذا بعد قوله ‏"‏ واحدها ربي ‏"‏ وهو تفسير أبي عبيدة أيضا بلفظه وزاد‏:‏ يقال حسسناهم من عند آخرهم أي استأصلناهم، وقد تقدم بيان ذلك في غزوة أحد‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏غزا واحدها غاز‏)‏ هو تفسير أبي عبيدة أيضا، قال في قوله‏:‏ ‏(‏أو كانوا غزا‏)‏ لا يدخلها رفع ولا جر لأن واحدها غاز، فخرجت مخرج قائل وقول انتهى‏.‏

وقرأ الجمهور ‏(‏غزا‏)‏ بالتشديد جمع غاز وقياسه غزاة، لكن حملوا المعتل على الصحيح كما قال أبو عبيدة، وقرأ الحسن وغيره ‏"‏ غزا ‏"‏ بالتخفيف فقيل خفف الزاي كراهية التثقيل، وقيل أصله غزاة وحذف الهاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏سنكتب ما قالوا‏:‏ سنحفظ‏)‏ هو تفسير أبي عبيدة أيضا، لكنه ذكره بضم الياء التحتانية على البناء للمجهول وهي قراءة حمزة، وكذلك قرأ ‏"‏ وقتلهم ‏"‏ بالرفع عطفا على الموصول لأنه منصوب المحل، وقراءة الجمهور بالنون للمتكلم العظيم، وقتلهم بالنصب على الموصول لأنه منصوب المحل، وتفسير الكتابة بالحفظ تفسير باللازم، وقد كثر ذلك في كلامهم كما مضى ويأتي‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏نزلا‏:‏ ثوابا‏:‏ ويجوز ومنزل من عند الله كقولك أنزلته‏)‏ هو قول أبي عبيدة أيضا بنصه، والنزل ما يهيأ للنزيل وهو الضيف، ثم اتسع فيه حتى سمى به الغداء وإن لم يكن للضيف‏.‏

وفي نزل قولان‏:‏ أحدهما مصدر والآخر أنه جمع نازل كقول الأعشى ‏"‏ أو تنزلون فإنا معشر نزل ‏"‏ أي نزول، وفي نصب نزلا في الآية أقوال‏:‏ منها أنه منصوب على المصدر المؤكد لأنه معنى ‏(‏لهم جنات‏)‏ ننزلهم جنات نزلا، وعلى هذا يتخرج التأويل الأول لأن تقديره ينزلهم جنات رزقا وعطاء من عند الله‏.‏

ومنها أنه حال من الضمير في ‏"‏ فيها ‏"‏ أي منزلة على أن نزلا مصدر بمعنى المفعول، وعليه يتخرج التأويل الثاني‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والخيل المسومة‏:‏ المسوم الذي له سيماء بعلامة، أو بصوفة، أو بما كان‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ الخيل المسومة المطهمة الحسان‏.‏

وقال سعيد بن جبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي‏:‏ المسومة الراعية‏)‏ أما التفسير الأول فقال أبو عبيدة‏:‏ الخيل المسومة المعلمة بالسيماء‏.‏

وقال أيضا في قوله‏:‏ ‏(‏من الملائكة مسومين‏)‏ أي معلمين‏.‏

والمسموم الذي له سيماء بعلامة أو بصوفة أو بما كان‏.‏

وأما قول مجاهد فرويناه في تفسير الثوري رواية أبي حذيفة عنه بإسناد صحيح، وكذا أخرجه عبد الرزاق عن الثوري‏.‏

وأما قول ابن جبير فوصله أبو حذيفة أيضا بإسناد صحيح إليه‏.‏

وأما قول ابن أبزي فوصله الطبري من طريقه، وأورد مثله عن ابن عباس من طريق للعوفي عنه‏.‏

وقال أبو عبيدة أيضا يجوز أن يكون معنى ‏(‏مسومة‏)‏ مرعاة، من أسمتها فصارت سائمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال سعيد جبير‏:‏ وحصورا لا يأتي النساء‏)‏ وقع هذا بعد ذكر المسومة، وصله الثوري في تفسيره عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير به، وأصل الحصر الحبس والمنع، يقال لمن لا يأتي النساء أعم من أن يكون ذلك بطبعة كالعنين أو بمجاهدة نفسه، وهو الممدوح والمراد في وصف السيد يحيى عليه السلام‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عكرمة‏:‏ من فورهم غضبهم يوم بدر‏)‏ وصله الطبري من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة في قوله‏:‏ ‏(‏ويأتوكم من فورهم هذا‏)‏ قال‏:‏ فورهم ذلك كان يوم أحد غضبوا ليوم بدر بما لقوا، وأخرجه عبد بن حميد من وجه آخر عن عكرمة في قولهم ‏(‏من فورهم هذا‏)‏ قال من وجوههم هذا، وأصل الفور العجلة والسرعة، ومنه فارت القدر، يعبر به عن الغضب لأن الغضبان يسارع إلى البطش‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال مجاهد‏:‏ يخرج الحي من الميت‏)‏ النطفة تخرج ميتة ويخرج منها الحي‏)‏ وصله عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى ‏(‏يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي‏)‏ قال‏:‏ الناس الأحياء من النطف الميتة والنطف الميتة من الناس الأحياء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏الإبكار أول الفجر، والعشي ميل الشمس إلى أن تغرب‏)‏ وقع هذا أيضا عند غير أبي ذر، وقد تقدم شرحه في بدء الخلق

*3*باب مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ

وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ وَكَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَكَقَوْلِهِ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ زَيْغٌ شَكٌّ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ الْمُشْتَبِهَاتِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏منه آيات محكمات‏)‏ قال مجاهد‏:‏ الحلال والحرام ‏(‏وأخر متشابهات‏)‏ يصدق بعضها بعضا، ك قوله‏:‏ ‏(‏وما يضل به إلا الفاسقين‏)‏ وكقوله‏:‏ ‏(‏ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون‏)‏ وكقوله‏:‏ ‏(‏والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم‏)‏ هكذا وقع فيه، وفيه تغيير وبتحريره يستقيم الكلام‏.‏

وقد أخرجه عبد بن حميد بالإسناد الذي ذكرته قريبا إلى مجاهد، قال في قوله تعالى ‏(‏منه آيات محكمات‏)‏ قال ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضا، هو مثل قوله‏:‏ ‏(‏وما يضل به إلا الفاسقين‏)‏ إلى آخر ما ذكره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏زيغ شك ‏(‏فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة‏)‏ المشتبهات‏)‏ هو تفسير مجاهد أيضا وصله عبد بن حميد بهذا الإسناد كذلك ولفظه ‏"‏ وأما ‏(‏الذين في قلوبهم زيغ‏)‏ قال‏:‏ شك ‏(‏فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة‏)‏ المشتبهات، الباب الذي ضلوا منه وبه هلكوا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏والراسخون في العلم‏)‏ يعلمون و ‏(‏يقولون آمنا به‏)‏ الآية‏)‏ وصله عبد بن حميد من الطريق المذكور عن مجاهد في قوله ‏"‏ والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به ‏"‏ ومن طريق قتادة قال ‏"‏ قال الراسخون كما يسمعون آمنا به كل من عند ربنا المتشابه والمحكم، فآمنوا بمتشابهه وعملوا بمحكمه فأصابوا ‏"‏ وهذا الذي ذهب إليه مجاهد من تفسير الآية يقتضي أن تكون الواو والراسخون عاطفة على معمول الاستثناء، وقد روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرأ ‏"‏ وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم آمنا به ‏"‏ فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة لكن أقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه في ذلك على من دونه، ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه لوصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة، وصرح بوفق ذلك حديث الباب، ودلت الآية على مدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب‏.‏

وحكى الفراء أن في قراءة أبي بن كعب مثل ذلك أعني ويقول الراسخون في العلم آمنا به‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ ‏:‏ سقط جميع هذه الآثار من أول السورة إلى هنا لأبي ذر عن السرخسي، وثبت عند أبي ذر عن شيخه قبل قوله منه آيات محكمات ‏"‏ باب ‏"‏ بغير ترجمة، ووقع عند أبي ذر آثار أخري‏:‏ ففي أول السورة قوله ‏"‏ تقاة وتقية واحد ‏"‏ هو تفسير أبي عبيده أي أنهما مصدران بمعنى واحد وقد قرأ عاصم في رواية عنه ‏"‏ إلا أن تتقوا منهم تقية‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏التستري‏)‏ بضم المثناة وسكون المهملة وفتح المثناة‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة‏)‏ قد سمع ابن أبي مليكة من عائشة كثيرا وكثيرا أيضا ما يدخل بينها وبينه واسطة، وقد اختلف عليه في هذا الحديث فأخرجه الترمذي من طريق أبي عامر الجزار عن ابن أبي مليكة عن عائشة، ومن طريق زيد بن إبراهيم كما في الباب بزيادة القاسم، ثم قال‏:‏ روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي ملكية عن عائشة ولم يذكروا القاسم، وإنما ذكره يزيد بن إبراهيم انتهى‏.‏

وقد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي الوليد الطيالسي عن يزيد بن إبراهيم وحماد بن سلمة جميعا عن أبي مليكة عن القاسم، فلم ينفرد يزيد بزيادة القاسم‏:‏ وممن رواه عن ابن أبي مليكة بغير ذكر القاسم أيوب أخرجه ابن ماجه من طريقه، ونافع بن عمر، وابن جريج وغيرهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي قرأ ‏(‏هذه الآية‏:‏ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات‏)‏ ‏.‏

قال أبو البقاء‏:‏ أصل المتشابه أن يكون بين اثنين، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل منها مشابها للآخر فصح وصفها بأنها متشابهة، وليس المراد أن الآية وحدها متشابهة في نفسها‏.‏

وحاصله أنه ليس من شرط صحة الوصف في الجمع صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات، وإن كان الأصل ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه‏)‏ قال الطبري قبل إن هذه الآية نزلت في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى، وقيل في أمر مدة هذه الأمة، والثاني أولى لأن أمر عيسى قد بينه الله لنبيه فهو معلوم لأمته، بخلاف أمر هذه الأمة فإن علمه خفي عن العباد‏.‏

وقال غيره‏:‏ المحكم من القرآن ما وضح معناه، والمتشابه نقيضه‏.‏

وسمى المحكم بذلك لوضوح مفردات كلامه وإتقان تركيبه، بخلاف المتشابه‏.‏

وقيل المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروف المقطعة في أوائل السور‏.‏

وقيل في تفسير المحكم والمتشابه أقوال أخرى غير هذه نحو العشرة ليس هذا موضع بسطها، وما ذكرته أشهرها وأقربها إلى الصواب وذكر الأستاذ أبو منصور البغدادي أن الأخير هو الصحيح عندنا، وابن السمعاني أنه أحسن الأقوال والمختار على طريقة أهل السنة، وعلى القول الأول جرى المتأخرون والله أعلم‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ المراد بالمحكم ما اتضح معناه، والمتشابه بخلافه، لأن اللفظ الذي يقبل معنى إما أن يقبل غيره أو لا، الثاني النص، والأول إما أن تكون دلالته على ذلك المعنى راجحة أو لا، والأول هو الظاهر، والثاني إما أن يكون مساويه أو لا، والأول هو المجمل، والثاني المؤول‏.‏

فالمشترك هو النص، والظاهر هو المحكم، والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه‏.‏

ويؤيد هذا التقسيم أنه سبحانه وتعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه، فالواجب أن يفسر المحكم بما يقابله، ويؤيد ذلك أسلوب الآية وهو الجمع مع التقسيم لأنه تعالى فرق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال ‏(‏منه آيات محكمات وأخر متشابهات‏)‏ أراد أن يضيف إلى كل منهما ما شاء منهما من الحكم فقال أولا ‏(‏فأما الذين في قلوبهم زيغ - إلى أن قال - والراسخون في العلم يقولون آمنا به‏)‏ وكان يمكن أن يقال‏:‏ وأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذلك الراسخون في العلم لإتيان لفظ الرسوخ لأنه لا يحصل إلا بعد التتبع التام والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب على طريق الرشاد ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول الحق، وكفى بدعاء الراسخين في العلم ‏(‏ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا‏)‏ إلخ شاهدا على أن ‏(‏والراسخون في العلم‏)‏ مقابل لقوله‏:‏ ‏(‏وأما الذين في قلوبهم زيغ‏)‏ وفيه إشارة على أن الوقف على قوله‏:‏ ‏(‏إلا الله‏)‏ تام وإلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى، وأن من حاول معرفته هو الذي أشار إليه في الحديث بقوله ‏"‏ فاحذروهم ‏"‏ وقال بعضهم‏:‏ العقل مبتلي باعتقاد حقيقة المتشابه كابتلاء البدن بأداء العبادة، كالحكيم إذا صنف كتابا أجمل فيه أحيانا ليكون موضع خضوع المتعلم لأستاذه، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سر وقيل‏:‏ لو لم يقبل العقل الذي هو أشرف البدن لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد، فبذلك يستأنس إلى التذلل بعز العبودية، والمتشابه هو موضع خضوع العقول لباريها استسلاما واعترافا بقصورها، وفي ختم الآية بقوله تعالى ‏(‏وما يذكر إلا أولو الألباب‏)‏ تعريض بالزائغين ومدح للراسخين، يعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه فليس من أولى العقول، ومن ثم قال الراسخون ‏(‏ربنا لا تزغ قلوبنا‏)‏ إلى آخر الآية، فخضعوا لباريهم لاشترك العلم اللدني بعد أن استعاذوا به من الزيغ النفساني وبالله التوفيق‏.‏

وقال غيره‏.‏

دلت الآية على أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه، ولا يعارض ذلك قوله‏:‏ ‏(‏أحكمت آياته‏)‏ ولا قوله‏:‏ ‏(‏كتابا متشابها مثاني‏)‏ حتى زعم بعضهم أن كله محكم، وعكس آخرون، لأن المراد بالإحكام في قوله‏:‏ ‏(‏أحكمت‏)‏ الإتقان في النظم وأن كلها حق من عند الله، والمراد بالمتشابه كونه يشبه بعضه بعضا في حسن السياق والنظم أيضا، وليس المراد اشتباه معناه على سامعه‏.‏

وحاصل الجواب أن المحكم ورد بإزاء معنيين، والمتشابه ورد بإزاء معنيين، والله أعلم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فهم الذين سمى الله فاحذروهم‏)‏ في رواية الكشميهني فاحذرهم ‏"‏ بالإقراد والأولى أولى، والمراد التحذير من الإصغار إلى الذين يتبعون المتشابه من القرآن، وأول ما ظهر ذلك من اليهود كما ذكره ابن إسحاق في تأويلهم الحروف المقطعة وأن عددها بالجمل مقدار مدة هذه الأمة، ثم أول ما ظهر في الإسلام من الخوارج حتى جاء ابن عباس أنه فسر بهم الآية، وقصة عمر في إنكاره على ضبيع لما بلغه أنه يتبع المتشابه فضربه على رأسه حتى أدماه، أخرجها الدارمي وغيره‏.‏

وقال الخطابي‏:‏ المتشابه على ضربين‏:‏ أحدهما ما إذا رد إلى المحكم واعتبر به عرف معناه، والآخر ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ فيطلبون تأويله، ولا يبلغون كنهه، فيرتابون فيه فيفتنون، والله أعلم‏.‏

*3*باب وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏)‏ أورد فيه حديث أبي هريرة ‏"‏ ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه ‏"‏ الحديث، وقد تقدم الكلام على شرحه واختلاف ألفاظه في أحاديث الأنبياء‏.‏

وقد طعن صاحب ‏"‏ الكشاف ‏"‏ في معنى هذا الحديث وتوقف في صحته فقال‏:‏ إن صح هذا الحديث فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك من كان في صفتهما، لقوله تعالى ‏(‏إلا عبادك منهم المخلصين‏)‏ قال‏:‏ واستهلال الصبي صارخا من مس الشيطان تخييل لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول هذا ممن أغويه‏.‏

وأما صفة النخس كما يتوهمه أهل الحشو فلا، ولو ملك إبليس على الناس نخسهم لامتلأت الدنيا صراخا انتهى‏.‏

وكلامه متعقب من وجوه، والذي يقتضيه لفظ الحديث لا إشكال في معناه، ولا مخالفة لما ثبت من عصمة الأنبياء بل ظاهر الخبر أن إبليس ممكن من مس كل مولود عند ولادته، لكن من عباد الله المخلصين لم يضره ذلك المس أصلا، واستثنى من المخلصين مريم وابنها فإنه ذهب يمس على عادته فحيل بينه وبين ذلك، فهذا وجه الاختصاص، ولا يلزم منه تسلطه على غيرهما من المخلصين‏.‏

وأما قوله ‏"‏ لو ملك إبليس إلخ ‏"‏ فلا يلزم من كونه جعل له ذلك عند ابتداء الوضع أن يستمر ذلك في حق كل أحد، وقد أورد الفخر الرازي هذا الإشكال وبالغ في تقريره على عادته وأجمل الجواب فما زاد على تقريره أن الحديث خبر واحد ورد على خلاف الدليل، لأن الشيطان إنما يغوي من يعرف الخير والشر، والمولود بخلاف ذلك، وأنه لو مكن من هذا القدر لفعل أكثر من ذلك من إهلاك وإفساد، وأنه لا اختصاص لمريم وعيسى بذلك دون غيرهما، إلى آخر كلام ‏"‏ الكشاف‏"‏‏.‏

ثم أجاب بأن هذه الوجوه محتملة، ومع الاحتمال لا يجوز دفع الخبر انتهى وقد فتح الله تعالى بالجواب كما تقدم، والجواب عن إشكال الإغواء يعرف مما تقدم أيضا، وحاصله أن ذلك جعل علامة في الابتداء على من يتمكن من إغوائه، والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

الشرح‏:‏

قوله‏:‏ ‏(‏باب وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم‏)‏ أورد فيه حديث أبي هريرة ‏"‏ ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه ‏"‏ الحديث، وقد تقدم الكلام على شرحه واختلاف ألفاظه في أحاديث الأنبياء‏.‏

وقد طعن صاحب ‏"‏ الكشاف ‏"‏ في معنى هذا الحديث وتوقف في صحته فقال‏:‏ إن صح هذا الحديث فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك من كان في صفتهما، لقوله تعالى ‏(‏إلا عبادك منهم المخلصين‏)‏ قال‏:‏ واستهلال الصبي صارخا من مس الشيطان تخييل لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول هذا ممن أغويه‏.‏

وأما صفة النخس كما يتوهمه أهل الحشو فلا، ولو ملك إبليس على الناس نخسهم لامتلأت الدنيا صراخا انتهى‏.‏

وكلامه متعقب من وجوه، والذي يقتضيه لفظ الحديث لا إشكال في معناه، ولا مخالفة لما ثبت من عصمة الأنبياء بل ظاهر الخبر أن إبليس ممكن من مس كل مولود عند ولادته، لكن من عباد الله المخلصين لم يضره ذلك المس أصلا، واستثنى من المخلصين مريم وابنها فإنه ذهب يمس على عادته فحيل بينه وبين ذلك، فهذا وجه الاختصاص، ولا يلزم منه تسلطه على غيرهما من المخلصين‏.‏

وأما قوله ‏"‏ لو ملك إبليس إلخ ‏"‏ فلا يلزم من كونه جعل له ذلك عند ابتداء الوضع أن يستمر ذلك في حق كل أحد، وقد أورد الفخر الرازي هذا الإشكال وبالغ في تقريره على عادته وأجمل الجواب فما زاد على تقريره أن الحديث خبر واحد ورد على خلاف الدليل، لأن الشيطان إنما يغوي من يعرف الخير والشر، والمولود بخلاف ذلك، وأنه لو مكن من هذا القدر لفعل أكثر من ذلك من إهلاك وإفساد، وأنه لا اختصاص لمريم وعيسى بذلك دون غيرهما، إلى آخر كلام ‏"‏ الكشاف‏"‏‏.‏

ثم أجاب بأن هذه الوجوه محتملة، ومع الاحتمال لا يجوز دفع الخبر انتهى وقد فتح الله تعالى بالجواب كما تقدم، والجواب عن إشكال الإغواء يعرف مما تقدم أيضا، وحاصله أن ذلك جعل علامة في الابتداء على من يتمكن من إغوائه، والله أعلم‏.‏